الاستهزاء بالآخرين

يناقش العديد من المصلحين والقانونيين في شتى أنحاء العالم كل يوم مسألة هامة تتمثل في (تحقيق الأمن في المجتمع) ولكن على طريقتهم الخاصة، كما أنه تُلقى الخطب والمحاضرات الكثيرة، وتكتب المقالات العديدة حول موضوع تحقيق الأمن والأمان، إلا أن الأوامر والقوانين التي أصدرها الإسلام من أجل تحقيق ذلك في المجتمع تتلخص بالقدوة الحسنة.


ولذا، إذا كنا نريد القضاء على الكراهية المتبادلة وتجنب الشجار مع الآخرين، وإذا كنا نريد بيئة دينية سِلمية داخل البيوت وخارجها، وإذا كنا نرغب بمجتمع يتعايش بالمودة والمحبة والتعاون، فعلينا أن نتبع الأسس والنظم التي يقدّمها لنا ديننا الإسلامي كي تحقق هذه الأمور.


ومن نقاط الضعف المنتشرة في مجتمعنا: السخرية من الآخرين، وقد حرم الله تعالى هذا الفعل المنكر، أي: الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم، قال الله سبحانه وتعالى:


يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ [الحجرات: 11]..


أي: لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر، ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك ممّا ينتقصه به، ولعلّه عند الله خير منه (تفسير الخازن: 4/169)..


ولقد ورد النهي في الحديث الشريف عن السخرية بالمسلم بما يتأذّى منه كما قال سيّدنا رسول الله ﷺ:


«لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ» (سنن الترمذي: 3/400، (2002)..


يقول المفتي أحمد يار خان رحمه الله تعالى: الاستهزاء بأحد بما يتأذى به، محرّم من كل وجه، وهذا هو المراد في الآية؛ فإنّ إيذاء المسلم حرام. (مرآة المناجيح، ٦ / ٥٠١)



أعظم الذنوب بعد الشرك بالله


أكبر الكبائر بعد الشرك "القتل" (الزواجر: 2/188)، ومِنْ ثمّ كان الشُرب (أي: شرب الخمر) من أفجر الفجور وأكبر الكبائر، بل ذهب بعض الصحابة إلى أنّها أكبرها بعد الشرك (فيض القدير: 6/524).


وكذلك ورد عن السخرية بالمسلم أنّه أعظمُ ذنبٍ عند الله سبحانه وتعالى بعد الشرك به، حيث جاء عن سيّدنا وهب بن منبّه رحمه الله أنّه قال: إِنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللهِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاللهِ "السُّخْرِيَةُ بِالنَّاس " (حلية الأولياء: 4/54، (4721).



حكم الاستهزاء في الإسلام


يقول العلامة عبد المصطفى الأعظمي رحمه الله في بيان حكم الاستهزاء بالناس:


"الاستهزاء بالمسلم باللسان أو بالإشارة أو بأية طريقة أخرى بقصد إهانته والاستخفاف به حرام ومعصية؛ لما فيه من إهانة المسلم وإيذائه، وإهانة المسلم وإيذائه أشد أنواع الحرام، وهذا العمل يؤدي بصاحبه إلى النار جهنم کے خطرات : صـ ١٧٣، تعريبًا من الأردية).


يقول فضيلة الشيخ محمد إلياس العطار القادري حفظه الله تعالى:


يجوز المزاح ضمن الحدود الشرعية، دون أن تؤذي أحداً أو تكسر قلبه، ولا يحصل به ضرر لأحد، ولا كذب في ذلك..


ويوجد بعض الناس يجرحون مشاعر البعض في مزاحهم، ويضحك المجرُوح لإخفاء فضيحته. صحيح أن المزاح مأثور عن حبيبنا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنَّ مزاحه كان بعيدًا عن جرح المشاعر، والإضرار، والكذب. وإذا كان يصعب تجنب هذه الأمور خلال المزاح، فينبغي لنا ترك المزاح مطلقاً، كما ينبغي على الدعاة والعلماء أن يتجنبوا كثرة المزاح، خاصةً أمام الناس، لأنه ذلك ينفّر الناسَ منهم فلا يستفيدون من علومهم ولا نصائحهم (المذاكرة المدنية ١٠ ربيع الأول ١٤٤٢ هـ، الموافق ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٠م)..


إن السخرية بسبب عيب مؤقت موجود عند الإنسان، كأن كان تسريح شعره غير جميل، أو أسلوبه في اللباس وغيره مختلف، أو السخرية منه بسبب ضعف أو مرض مؤقت، كأن كان عليه آثار العوز والفقر، وحتى السخرية بسبب عيب أو ضعف دائم خِلقي أو عرضيٍ حصل له لا دخل له فيه، مثل كونه أبكماً، أو ضعيف السمع، أو البصر، أو أنه أعور، أو يتلعثم بكلامه، أو أنه أعرج، أو قصيرَ القامة أو أسود ونحو ذلك.. فإن السخرية مطلقاً بسبب هذه الأمور خُلقٌ سيء يكسر قلوب الآخرين، ويؤذيهم، ويزرع بذور الكراهية مكان المودة، ويجعل الناس متنافرين، ويصيّر الأقارب أجانب، وفي نفس الوقت يقتل فكرة الشرف والاحترام.


وأما الذي نسخر منه فإما أن يكون أدنى منا رتبةً، أو مساوياً أو أعلى. فمن كان أدنى منا رتبة، أو تحت إشرافنا، فسيتحمل استهزاؤنا (إلى أمد محدد)، ولا يرد علينا، ولا يقوم بأي عمل ضدنا، ويحترمنا أيضاً في الظاهر، لكنه حين ينفد صبره (يضطر إلى اتخاذ خطوة خاطئة حتى لو لم يرغب في ذلك) وماذا يستطيع أن يفعل؟


استمعوا لما ينصح به فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى، يقول: "هذه قصة وقعت في منطقة كارادر (کھارادر) كراتشي باكستان، وقد أخبرني بها أحد سكان تلك المنطقة، وهي أن أحد الأوباش المحليين كان معتادًا على السخرية من فتى أمام الناس، ولم يكن هذا المسكين يتمكن من أي رد بوجهه بسبب الخوف منه، لكنه كان يحترق من داخله، ذات مرة، عندما صغّر هذا الرجل السيئ اسم الفتى، وشوّهه، واستهزأ به جُن جنون الفتى، وتأثّر بهذا القول من قلبه كثيراً (هذه المرة)، فقال في نفسه: إلى متى سيستمر هذا الرجل السيئ في اضطهادي والسخرية مني؟ فحصل الفتى أخيراً على مسدس من مكان ما، وقام بقتله حين سنحت له الفرصة، ثم هرب" (المذاكرة المدنية، ٢ رمضان المبارك ١٤٤١ هـ، الموافق بـ ٢٥ أبريل ٢٠٢٠م).


إن قتْل هذا الفتى بهذه الطريقة لا يجوز شرعاً ولا يصح بأي قانون، و لكنّ هذه الخطوة السيئة بدأت بالمزاح المُهين.


كما أنه لا يحصل السخرية عادةً من شخص أعلى منا إلا من وراء ظهره، وهذا العمل يعد من الغيبة في معظم الأحوال، فإذا بلغت السخرية ذلك الرجل عنا، فإنه سيتأذى به أيضاً، وسيكتب في صحائفنا وزر أذيته إضافة لوزر الغيبة، كما أن هذا الخلق قد يكون مضرًا لنا في الأمور الدنيوية.


لذلك ألتمس من جميع أحباب الرسول ﷺ! بأن لا يسخروا من أحد لا باللسان ولا بالإشارة ولا بأي طريقة أخرى، كي تنعموا بخيرات الدنيا والآخرة. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع أوامر الإسلام، آمين بحق خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.


 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *